الفصل الثالث عشر في ذكر خلافته وما يتعلق بها
صفحة 1 من اصل 1
الفصل الثالث عشر في ذكر خلافته وما يتعلق بها
الفصل الثالث عشر
في ذكر خلافته وما يتعلق بها
ذكر ما جاء دليلاً على خلافته تنبيهاً سابقاً منه صلى الله
عليه وسلم وتقريراً لاحقاً من الصحابة وشهادة منهم بصحتها وأنها لم تكن إلا بحق.
وقد تقدم جملة من أحاديث هذا الذكر فشيء منها تقدم في باب الأربعة في ذكر ما جاء في
خلافة الأربعة وفي باب الثلاثة كذلك وفي باب أبي بكر وعمر كذلك وبعضها مصرح
بخلافتهم على الترتيب الواقع منه صلى الله عليه وسلم تارة ومن فهم الصحابة أخرى
خصوصاً أحاديث مرائيه صلى الله عليه وسلم فإن أحاديثها متفق على صحتها. وكذلك حديث
الأمر بالاقتداء بأبي بكر وعمر وبعده باقيها تقدم في الخصائص ونحن ننبه عليه لنفرع
إليه عند الحاجة إلى الاستدلال به. فمنها حديث ابن عباس ليس أحداً من علي إلى قوله
سدوا عني كل خوخة وفهم الصحابة رضوان الله عليهم من ذلك التنبيه على الخلافة. وقد
تقدم وجه بيان الدلالة منه وهو في الذكر الرابع من فصل الخصائص وأحاديث أفضليته
كلها دليل على تعينه على قولنا لا تنعقد ولاية المفضول عند وجود الأفضل وعلى القول
الآخر دليل على أولويته لا نزاع في ذلك وقد تقدمت في الذكر الثالث عشر من الخصائص.
وتقدم ضرب منها في باب الأربعة وفي باب الثلاثة وفي باب أبي بكر وعمر وحديث
استخلافه على الصلاة لما ذهب يصلح بين بني عوف في الثالث والأربعين من الخصائص.
وحديث استخلافه عليها في مرض وفاته في الخامس والأربعين وهو من أوضح الأدلة وعليه
اعتمد عمر وعلي وغيرهما من الصحابة في الاستدلال على خلافته وعلى أحقيته بها على
ما سيأتي في آخر هذا الذكر ووجهه أنه كان وهو صلى الله عليه وسلم قد تأهب للنقلة
إلى ربه فعينه للإمامة ثم عورض بعرض غيره عليه لذلك فمنع منه ثم لما أن تقدم غيره
كره ذلك وصرح بالمنع منه ثم أكده بتكرار المنع فقال لا لا لا ثم أردف ذلك بما فيه
تعريض بالخلافة بل تصريح بقوله يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر ثم أكد ذلك بتكرار
كل ذلك مع علمه صلى الله عليه وسلم بأن ذلك مظنة الخلافة فإنه كان صلى الله عليه
وسلم إمامهم في الصلاة والحاكم عليهم فلما أقام أبا بكر ذلك المقام مع توفر هذه
القرائن الحالية والمقالية علم أنه أراد ذلك وفي قوله يأبى الله والمسلمون إلا أبا
بكر أكبر إشارة بل أفصح عبارة ولولا اعتماده صلى الله عليه وسلم على تلك الإشارة
المصرحة بإرادة الخلافة لما أهمل أمرها فإنها من الوقائع العظيمة في الدين ويؤيد
أنه أراد كتب العهد على ما سنذكره ثم تركه وقال يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر
إنما كان والله أعلم اكتفاء بنصبه إماماً عند إرادة الانتقال عنهم وإحالة على فهم
ذلك عنه ولم يصرح بالتنصيص عليها لأنه مرتبط بما يوحي إليه لا يفعل شيئاً إلا بأمر
ربه ولم يأمره بالتنصيص لينفذ قضاؤه وقدره في ابتلاء قوم عميت أبصارهم بما ابتلاهم
به وليبين فضل من انقاد إلى الحق بزمام الإشارة ودله نور بصيرته عليه فإن من لم
يعتقد ذلك بعد بلوغ هذه الأحاديث والعلم بتلك القرائن الحالية والمقالية فالظاهر
عناده ورده للحق بعد تبينه.
ومنها حديث عائشة لا ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يؤمهم غيره
وهو صريح في الباب لعموم الإمامة تقدم في الرابع والأربعين وحديث الحوالة عليه في
السابع والأربعين وهو من أدل الأدلة وأوضحها وحديثها من أصح الأحاديث وإن صحت
الزيادة على ما رواه مسلم وهي قوله صلى الله عليه وسلم فإني أخاف أن يتمنى متمن أو
يقول قائل أنا أولى. وفي رواية لكيلا يطمع في الأمر طامع أو يتمنى متمن ثم قال
ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر ويأبى الله ويدفع المؤمنون أبى الله والمؤمنون
أن يختلف عليه وهذا صريح في الباب ولا يقال إنه نص على إمامته بتوليته من جهته صلى
الله عليه وسلم فإنه لم يكتب بل عرف أنه الخليفة بعده فجعل الله سبحانه وتعالى ذلك
وأجمع المسلمون عليه.
ذكر سؤال النبي صلى الله عليه
وسلم تقدمة علي فأبى الله إلا تقدمة أبي بكر
عن علي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سألت الله عز
وجل أن يقدمك ثلاثاً فأبى إلا تقديم أبي بكر خرجه الحافظ السلفي في المشيخة
البغدادية وخرجه صاحب الفضائل ولفظه يا علي ما زلت أسأل الله فيك ثلاثاً فأبى أن
يقدم إلا أبا بكر وقال غريب وهذا الحديث مع غرابته يعتضد بما تقدم من الأحاديث
الصحيحة فيستدل بها على صحته لشهادة الصحيح لمعناه.
ذكر ما روي عن عمر في هذا الباب
عن عبد الله بن مسعود قال كان رجوع الأنصار يوم سقيفة بني
ساعدة بكلام قاله عمر بن الخطاب نشدتكم بالله هل تعلمون أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أمر أبا بكر يصلي بالناس قالوا اللهم نعم قال فأيكم تطيب نفسه أن يزيله
عن مقام أقامه فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا كلنا لا تطيب نفسه ونستغفر
الله خرجه أبو عمر وخرج أحمد معناه وفي آخره فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر
قالت الأنصار نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر وهذا مما يؤكد الاستدلال بإمامة الصلاة
على الخلافة كما قررنا والله أعلم.
ذكر ما روي عن علي رضي الله عنه
متضمناً القول بصحة خلافة أبي بكر متعلقاً في ذلك بسبب من النبي صلى الله عليه
وسلم
عن الحسن قال قال لي علي بن أبي طالب لما قبض النبي صلى الله
عليه وسلم نظرنا في أمرنا فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم قد قدم أبا بكر في
الصلاة فرضينا لدنيانا من رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا. وعنه قال قال
علي قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر يصلي بالناس وقد رأى مكاني وما كنت
غائباً ولا مريضاً ولو أراد أن يقدمني لقدمني فرضينا لدنيانا من رضيه رسول الله
صلى الله عليه وسلم لديننا. وعن قيس بن عبادة قال قال لي علي بن أبي طالب إن رسول
الله صلى الله عليه وسلم مرض ليالي وأياماً ينادي بالصلاة فيقول مروا أبا بكر
فليصل بالناس فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم نظرت فإذا الصلاة علم الإسلام
وقوام الدين فرضينا لدنيانا من رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا فبايعنا
أبا بكر خرجه أبو عمر وخرج معنى الثلاثة ابن السمان في الموافقة وابن خيرون في
حديث طويل تقدم في باب الثلاثة عن الحسن البصري. وهذا مما يؤيد ما ذكرناه من
الاستدلال بتقديمه إماماً في الصلاة على الإشارة إلى الخلافة وإن رضاهم به خليفة
إنما كان لكونه صلى الله عليه وسلم رضيه لإمامة الصلاة. وقد تقدم في الخصائص في
ذكر أفضليته قوله رضي الله عنه إن أترككم فإن يرد الله بكم خيراً يجمعكم على خيركم
كما جمعنا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على خيرنا وقد تقدم أيضاً دعاؤه أبا
بكر يا خليفة رسول الله في مواضع شتى وعن سويد قال دخل أبو سفيان على علي والعباس
فقال لهما ما بال هذا الأمر في أذل قبيلة من قريش وأقلها والله إن شئت لأملأنها
عليه خيلاً ورجلاً ولأورثنها عليه من أقطارها أي لأصر منها فقال علي ما أريد أن
تملأها عليه خيلاً ورجلاً ولولا أنا رأيناه أهلاً ما خليناه وإياها يا أبا سفيان
المؤمنون قوم نصحة بعضهم لبعض متوادون وإن بعدت ديارهم والمنافقون غششة بعضهم لبعض
وإن قربت ديارهم خرجه ابن السمان في الموافقة بهذا السياق وهو عند غيره إلى قوله
أملأها عليه خيلاً ورجلاً.
ذكر ما روي عن أبي عبيدة بن
الجراح في هذا الباب
عن أبي البختري قال قال عمر لأبي عبيدة بن الجراح أبسط يدك
حتى أبايعك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أنت أمين هذه الأمة فقال
أبو عبيدة ما كنت لأتقدم بين يدي رجل أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤمنا
فأمنا حتى مات خرجه أحمد وخرجه صاحب الصفوة. وعن إبراهيم التيمي قال لما قبض رسول
الله صلى الله عليه وسلم أتى عمر أبا عبيدة فقال ابسط يدك فلأبايعك فإنك أمين هذه
الأمة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو عبيدة لعمر ما رأيت لك فهة
قبلها منذ أسلمت تبايعني وفيكم الصديق ثاني اثنين.
شرح: الفهة السقطة والجهلة نحو ذلك قاله أبو عبيدة والفهة والفهاهة العي يقال رجل
فه وامرأة فهة.
ذكر ما روي عن عبد الله بن مسعود
في ذلك
عن زر بن حبيش عن ابن مسعود قال إن الله تبارك وتعالى نظر في
قلوب العباد فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد فاصطفاه وابتعثه
برسالته ثم نظر في قلوب العباد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء
نبيه صلى الله عليه وسلم يقاتلون عن دينه فلما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله
حسن وما رأوه سيئاً فهو عند الله سيئ وقد رأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
جميعاً أن يستخلفوا أبا بكر رضي الله عنه خرجه ابن السري وهذا من أقوى الأدلة على
صحة خلافته رضي الله عنه فإن الإجماع قطعي.
ذكر ما روي عن أبي سعيد في معنى
ذلك
عن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كنت
متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن أخي في الدين وصاحبي في الغار وإن أبا
بكر كان ينزل بمنزلة الوالد وإن أحق ما اقتدينا به بعد رسول الله صلى الله عليه
وسلم أبو بكر وروي عن ابن الزبير نحو ذلك خرجهما إبراهيم التيمي.
ذكر ما أخبره به النصارى مما
يتضمن خلافة أبي بكر
عن جبير بن مطعم قال لما بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم
وظهر أمره بمكة خرجت إلى الشام فلما كنت ببصرى أتتني جماعة من النصارى فقالوا من
الحرم أنت قلت نعم قالوا تعرف هذا الذي تنبأ فيكم قلت نعم قال فأخذوا بيدي
فأدخلوني ديراً لهم فيه تماثيل وصور فقالوا لي انظر هل ترى صورة هذا الذي بعث فيكم
فنظرت فلم أر صورته فقلت لا أرى صورته فأدخلوني ديراً أكبر من ذلك فإذا فيه تماثيل
وصور أكثر مما في ذلك الدير فقالوا لي انظر هل ترى صورته فنظرت فإذا أنا بصفة رسول
الله صلى الله عليه وسلم وصورته وإذا أنا بصفة أبي بكر وصورته وهو آخذ بعقب النبي
صلى الله عليه وسلم فقالوا هل ترى صفته قلت نعم فقلت لا أخبرهم حتى أعرف ما يقولون
فقالوا هو هذا قلت نعم أشهد أنه هو قالوا أتعرف هذا الذي أخذ بعقبه قلت نعم قالوا
نشهد أن هذا صاحبكم وأن هذا الخليفة من بعده خرجه ابن الصاعد. فإن قيل ما ذكرتموه
مما أوردتموه في حق أبي بكر واستدللتم به على أنه الخليفة بعد رسول الله صلى الله
عليه وسلم معارض بما جاء في حق علي بن أبي طالب وقد وردت أحاديث تدل على أنه
الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمنها حديث سعد بن أبي وقاص وابن عباس
أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ألا أنه لا نبي بعدي أخرجاه وغيرهما
أنه لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي قال له ذلك وقد استخلفه لما ذهب صلى الله
عليه وسلم إلى غزوة تبوك خرجه أحمد في مسنده والحافظ أبو القاسم الدمشقي في
الموافقات. وسيأتي مستوفياً في خصائصه من باب مناقبه ووجه الدلالة أن موسى استخلف
هارون عند ذهابه إلى ربه فمقتضى التنظير بينهما أن يكون خليفته عند ذهابه إلى ربه
كما كان هارون من موسى وأن يكون المراد بقوله لا ينبغي أن أذهب أي إلى ربي وذلك
ظاهر جلي ومنها حديث من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه
وانصر من نصره وفي بعض طرقه ألستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم قالوا بلى
يا رسول الله قال من كنت مولاه فإن هذا علي مولاه خرجه أحمد وأبو حاتم والترمذي
والبغوي. وسنذكر الحديث بطرق كثيرة في خصائصه من باب مناقبه إن شاء الله تعالى وجه
الدلالة أن المولى في اللغة المعتق وابن العم والعصبة ومنه وإني خفت الموالي من
ورائي وسموا بذلك لأنهم يلونه في النسب من الولي القرب ومنه قول الشاعر:
أي بنو الأعمام والحليف وهو العقيد والجار والناصر ومنه قوله
تعالى: "ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم" في
قول ابن عرفة والولي ومنه الآية قال بعضهم أي وليهم والقائم بأمرهم وأما الكافر
فقد خذله وعاداه. ومنه أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم أيما امرأة نكحت بغير إذن
مولاها فنكاحها باطل أي وليها ثمانية أوجه ولا يصح الحمل على شيء من الأربعة الأول
إذ لا معنى له في الحديث وكذلك الخامس إلا على وجه بعيد بأن يراد بالحليف الناصر
والمتبادر إلى الذهن خلافه إذ الحليف من وجدت منه صورة المحالفة حقيقة والمجاز
خلاف الظاهر. وكذا السادس وهو الجار إلا أن يراد به المجير بمعنى الناصر ومنه وإني
جار لكم أي مجير فيرجع إلى معنى الناصر فتعين أحد معنيين إما الناصر أو الوالي
بمعنى المتولي وأيا ما كان أفاد المقصود إذ معناه من كنت متولياً أمره والناظر في
مصلحته والحاكم عليه فعلي في حقه كذلك وتأيد هذا المعنى بقوله ألستم تعلمون أني
أولى بالمؤمنين من أنفسهم وما ذاك إلا فيما ذكرناه من النظر فيما يصلحهم وفي
الاحتكام عليهم أو يكون معناه من كنت ناصره ومنصفه من ظالمه والآخذ له بحقه وبثأره
فعلي في حقه كذلك وقد تعذر وصفه بذلك في حال حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم
فتعين أن يكون المراد به بعد وفاته. ومنها وهو أقواها سنداً ومتناً حديث عمران بن
حصين أن علياً مني وأنا منه وهو ولي كل مؤمن من بعدي خرجه أحمد والترمذي وقال حسن
غريب وأبو حاتم وحديث بريدة لا يقع في علي فإنه مني وأنا منه وهو وليكم بعدي خرجه
أحمد والحديث الآخر من كنت وليه فعلي وليه خرجه أبو حاتم. وستأتي هذه الأحاديث
مستوفاة في خصائصه إن شاء الله تعالى وجه الدلالة أن الولي في اللغة المولى قاله
الفراء والمتولي ومنه: "أنت ولي في الدنيا والآخرة" أي متول أمري فيهما
وضد العدو بمعنى المحب والمتوالي والناصر ومنه: "إنما ذلكم الشيطان يخوف
أولياءه" أي يخوفكم أنصاره فحذف المفعول الأول كما تقول كسوت ثوباً أعطيت
درهماً. وقيل معناه نخوفكم بأوليائه فحذف الجار وأعمل الفعل ولا يتجه حمله على
المحب والمتوالي إذ لا يكون للتقييد بالبعدية معنى في الحديثين الأولين فإنه رضي
الله عنه كان محباً متوالياً للمؤمنين في حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم وبعد
وفاته والحديث الثالث محمول على الأولين في إرادة البعدية حملا للمطلق على المقيد
فتعين أحد المعاني الثلاثة وأيا ما كان أفاد المقصود أما بمعنى الناصر فقد تقدم
توجيهه في الحديث قبله وأما بمعنى الولي فإن حمل المولى على معنى يتجه في الحديث
كما تقدم تقريره فالكلام فيه ما سبق وإن حمل على ما لا يتجه فلا تصح إرادته وأما
بمعنى المتولي فظاهر في المقصود بل صريح والله أعلم. قلنا الجواب من وجهين الأول
أن الأحاديث المعتمد عليها في خلافة أبي بكر متفق على صحتها وهذه الأحاديث غايتها
أن تكون حسنة وإن صح منها شيء عند بعضهم فلا يصح معارضاً لما اتفق عليه.
الثاني تسليم صحتها مع بيان أنه لا دليل لكم فيها
قوله في الحديث الأول أن موسى استخلف هارون عند ذهابه إلى
ربه إلى آخر ما قرره قلنا الجواب عنه من وجهين الأول يقول هذا عدول عن ظاهر ما نطق
به لساناً الحال والمقال فإنه قال لعلي تلك المقالة حين استخلفه لما توجه إلى غزوة
تبوك على ما سيتضح إن شاء الله تعالى في آخر هذا الكلام وذلك استخلاف حال الحياة
فلما رأى تألمه بسبب التخلف إما أسفاً على الجهاد أو بسبب ما عرض من أذى المنافقين
على ما سنبينه إن شاء الله تعالى قال له تلك المقالة إيذاناً له بعلو مكانته منه
وشرف منزلته التي أقامه فيها مقام نفسه فالتنظير بينه وبين هارون إنما كان في
استخلاف موسى له متضمناً الإخوة وشد الأزر والعضد به وكان ذلك كله حال الحياة مع
قيام موسى فيما يستخلفه فيه يشهد بذلك صورة الحال فليكن الحكم في علي كذلك متضماً
إلى ما يثبت له من إخوة النبي صلى الله عليه وسلم وشد أزره وعضده به غير أنه لم
يشاركه في أمر النبوة كما شارك هارون موسى فلذلك قال صلى الله عليه وسلم إلا أنه
لا نبي بعدي. هذا على سبيل التنظير ولا إشعار في ذلك بما بعد الوفاة لا بنفي ولا
بإثبات بل يقول لو حمل على ما بعد الوفاة لم يصح تنزيل علي من النبي صلى الله عليه
وسلم منزلة هارون من موسى لانتفاء ذلك في هارون فإنه لم يكن الخليفة بعده من بعد
وفاة موسى وإنما كان الخليفة بعده يوشع بن نون فعلم قطعا أن المراد به الاستخلاف
حال الحياة لمكان التشبيه ولم يوجد إلا في حال الحياة لا يقال عدم استخلاف موسى
هارون بعد وفاته إنما كان لفقد هارون حينئذ ولو كان حياً ما استخلف غيره والله
أعلم بخلاف علي مع النبي صلى الله عليه وسلم وإنما يتم دليلكم أن لو كان هارون
حياً عند وفاته واستخلف غيره لأنا نقول الكلام معكم في ثنتين أن مراد بهذا القول
الاستخلاف في حال الحياة فكان التنزيل منزلة هارون من موسى ومنزلة هارون من موسى
في الاستخلاف لم تحقق إلا في الحال الحياة فثبت أن المراد به ما تحقق لا أمر
آخر وراء ذلك وإنما يتم متعلقكم منه أن لو حصل استخلاف هارون بعد وفاه موسى ثم
نقول هب أن المراد الاستخلاف عنه الذهاب إلى الرب فلم قلتم إن ذلك بالموت وإنما
يكون ذلك أن لو لم يكن إلا به وهو ممنوع والذهاب إلى الرب سبحانه وتعالى في الحياة
أيضاً وهل كان ذهاب موسى إلى ربه إلا في حال حياته والصلاة مناجاة والدعاء كذلك
والحجاج والعمار وقد الله فهل يكون الذهاب إلى شيء من ذلك إلا ذهاباً إلى الرب
حقيقة ومطابقتها أوقع من مطابقة الذهاب بالموت. فكل ذاهب إلى طاعة ربه ذاهب إلى
ربه لأنه متوجه إليه به وإن كان في بعض التوجه أوقع منه في غيره هذا لا نزاع فيه
فيكون النبي صلى الله عليه وسلم استخلف علياً وهو ذاهب إلى ربه بالخروج إلى طاعته
بالجهاد كما استخلف موسى هارون في حال حياته ذاهباً إلى ربه والله أعلم. الوجه
الثاني أن سياق هذا القول خبر ولو كان المراد به ما بعد الوفاة لوقع لا محالة كما
وقع كما أخبر عن وقوعه فإن خبره صلى الله عليه وسلم حق وصدق: "وما ينطق عن
الهوى إن هو إلا وحي يوحى" ولما لم يقع علم قطعاً أنه لم يرد ذلك. وقوله إنه
لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي المراد به والله أعلم خليفتي في أهلي فإنه صلى
الله عليه وسلم لم يستخلف إلا عليهم والقرابة مناسبة لذلك واستخلف صلى الله عليه
وسلم على المدينة محمد بن مسلم الأنصاري وقيل سباع بن عرفطة ذكره ابن إسحاق وقال
خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك علياً على أهله وأمره بالإمامة
فيهم فأرجف المنافقون على علي وقالوا ما خلفه إلا استثقالاً قال فأخذ علي سلاحه ثم
خرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل بالجرف فقال يا نبي الله زعم
المنافقون أنك خلفتني لأنك استثقلتني وتخففت مني فقال كذبوا ولكني خلفتك لما تركت
ورائي فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك أفلا ترضى يا علي أن تكون مني بمنزلة هارون من
موسى إلا أنه لا نبي بعدي أو يكون المعنى إلا وأنت خليفتي في أهلي في هذه القضية
على تقدير عموم استخلافه في المدينة إن صح ذلك ويكون ذلك لمعنى اقتضاه في تلك
المرة علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهله غيره يدل عليه أنه صلى الله عليه
وسلم استخلف غيره في قضايا كثيرة ومرات عديدة أو يكون المعنى الذي يقتضيه حالك
وأمرك ألا أذهب في جهة إلا وأنت خليفتي لأنك مني بمنزلة هارون من موسى لمكان قربك
مني وأخذك عني لكن قد يكون شخوصك معي في وقت أنفع لي من استخلافك أو يكون الحال
يقتضي أن المصلحة في استخلاف غيرك فيتخلف حكم الاستخلاف عن مقتضيه لمعارض أقوى منه
يقتضي خلافه وليس في شيء من ذلك كله ما يدل على أنه الخليفة من بعد موته صلى الله
عليه وسلم.
وأما الحديث الثاني فقوله فيه فتعين أحد معنيين إما الناصر
وإما الولي بمعنى المتولي فيقول بموجبه لا بالتقدير الذي قدروه والمعنى الذي نزلوه
عليه بل يكون التقدير على معنى الناصر من كنت ناصره فعلي ناصره لأن علياً جلا من
الكروب في الحرب ما لم يجلها غيره وفتح الله على يديه في زمنه صلى الله عليه وسلم
ما لم يفتح على يد غيره وشهرة ذلك تغني عن الاستدلال عليه والتطويل فيه. وإذا كان
بهذه المثابة كان ناصرا من كان النبي صلى الله عليه وسلم ناصره لما أشاد الله
تعالى به من دعائم الإسلام المثبتة له منه في عنق الخاص والعام بنصرة المسلمين
وإشادته منار الدين أو يكون المعنى من كنت ناصره فعلي نصره وإن كان ذلك واجباً على
كل أحد من الصحابة بل من الأمة لكن أثبت بذلك لعلي نوع اختصاص لأنه أقربهم إليه
وأولاهم بالانتصار لمن نصره وهذا أولى من حمل الناصر على المعنى الذي ذكروه لما
يستلزم ذلك من المفسدة العظيمة والوصمة الفظيعة والثلمة المتفاقمة في جلة أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار على ما سنقرره في الجواب عن الحديث
الثالث مما يدل على أنه لا يجوز حمله على معنى الاستخلاف بعده. وأما على معنى
المتولي فيكون التقدير فعلي وليه ومتولي أمره بعدي فلا يصح ذلك إذ الإجماع منعقد
على أنه لم يرد ذلك في الحالة الراهنة فيكون كالحديث الثالث وسيأتي الكلام عنه
مستوفياً إن شاء الله تعالى. على أن نقول لم لا يجوز أن يكون المراد بالولي المنعم
استعارة من مولى العتق التفاتاً إلى المعنى المتقدم آنفاً في معنى الناصر ويكون
التقدير من أنعم الله عليه بالهداية على يد نبيه صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام
والإيمان حتى اتصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه مولاه فقد أنعم الله عليه أيضاً
باستقامة أمر دينه وأمانه من أعداء الدين وخذلانهم وقوة الإسلام وإشادة دعائمه على
يد علي بن أبي طالب مما اختص به دون غيره مما تقدم بيانه مما يصحح بيانه له
الاتصاف بأنه مولى له أيضاً.
وقد حكى الهروي عن أبي العباس أن معنى الحديث من أحبني يتولاني فليحب علياً
وليتوله وفيه عندي بعد إذ كان قياسه على هذا التقدير أن يقول من كان مولاي فهو
مولى علي ويكون المولي بمعنى الولي ضد العدو فلما كان الإسناد في اللفظ على العكس
من ذلك بعد هذا المعنى ولو قال معناه من كنت أتولاه وأحبه فعلي يتولاه ويحبه كان
أنسب للفظ الحديث وهو ظاهر لمن تأمله نعم يتجه ما ذكره من وجه آخر بتقدير حذف في
الكلام على وجه الاختصار تقديره من كنت مولاه فسبيل المولى وحقه أن يحب ويتولى
فعلي أيضاً مولاه لقربه مني ومكانته من تأييد الإسلام فليحبه وليتوله كذلك.
أما الحديث الثالث فقوله فيتعين حمل الولي إما على الناصر المتولي إلى آخر ما قرر
قلنا الجواب عنه من وجهين الأول القول بالموجب على المعنيين مع البيان بأنه لا
دليل فيه لكم أما على معنى الناصر فلما بيناه في الحديث قبله وأما بمعنى المتولي
فقد كان ذلك وإن كان بعد من كان بعده إذ يصدق عليه بعده حقيقة ومثل هذا قد ورد.
وسيأتي في مناقب عثمان أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في منامه حورية فقال لها
لمن أنت قالت لخليفة من بعدك عثمان ويكون فائدة ذكر ذلك التنبيه على فضيلته والأمر
بالتمرن على محبته فإنه سيلي عليكم ويتولى أمركم ومن تتوقع إمرته فالأولى أن يمرن
القلب على مودته ومحبته ومجانبة بغضه ليكون أدعى إلى الانقياد وأسرع للطواعية
وأبعد من الخلف. ويشهد لذلك أن هذا القول صدر حين وقع فيه من وقع وأظهر بغضه من
أظهر على ما تضمنه الحديث وسيأتي في خصائصه أيضاً فأراد نفي ذلك عنهم والتمرن على
خلافته لحاجتهم إليه وحاجته إليهم ولا يجوز حمله على أنه المتولى عقيب وفاته صلى
الله عليه وسلم في الأحاديث كلها لوجوه:
الأول: أن لفظ الحديث لفظ الخبر ممن لا ينطبق عن الهوى إن هو
إلا وحي يوحى ولو كان المراد به ذلك لوقع لا محالة كما وقع كل ما أخبر عنه ولما لم
يقع ذلك دل على أن المراد به غيره لا يقال لم لا يجوز أن يكون المراد الأمر بلفظ
الخبر لأنا نجيب عنه من وجهين: الأول أنه صرف اللفظ عن ظاهره وذلك مرجوح والظاهر
راجح فوجب العمل به. الثاني أن ذلك أمر عظيم مهم في الدين وحكم تتوفر عليه داعية
المسلمين ومثل ذلك لا يكتفي فيه بالألفاظ المحتملة بل يجب فيه التصريح بنص أو ظاهر
الوجه.
الثاني: أنه يشم من الحمل على ذلك مفسدة عظيمة وهو نسبة الأمة إلى الاجتماع على
الضلالة واعتقاد خطأ جميع الصحابة على تولية أبي بكر رضي الله عنه وعنهم أجمعين
وإن علياً وافقهم على ذلك الخطأ فإن بيعته قد اجتمع عليها ما سنقرره في فصل خلافته
وذلك منفي بقوله صلى الله عليه وسلم لا تجتمع أمتي على ضلالة وما ذكرناه في المصير
إليه دفع لهذا المحذور ونفي للظلم والخطأ عن الجم الغفير المشهود لهم بأنهم
كالنجوم وأن من اقتدى بهم اهتدى خصوصاً من أمره صلى الله عليه وسلم بالاقتداء به
من بعده وشهد بالرشد لمن أطاعه وأن الدين يتم به على ما سبق مما تضمنه باب أبي بكر
وعمر. وما تدعيه الرافضة من أن علياً ومن تابعه من بني هاشم في ترك المبادرة إلى
بيعة أبي بكر إنما بايعوه تقية بلا إجماع في نفس الأمر فذلك في غاية الفساد
وسنقرره ونجيب عنه على الوجه الأسد في ذكر بيعة علي إن شاء الله من هذا الفصل
الوجه الثالث أن الأحاديث المتقدمة في أبي بكر دلت على أنه الخليفة عقيب وفاته صلى
الله عليه وسلم وقد مر وجه دلالتها على ما تقدم وأحاديث علي مترددة بين احتمالين
فالحمل على أحدهما توفيق بين الأحاديث كلها ونفي للمحذور اللازم في حق الصحابة كما
قررناه والحمل على الآخر إلغاء لبعضها وتقرير لذلك المحذور فكان الحمل على ما يحصل
به التوفيق ونفي المحذور أولى عملاً بالأحاديث كلها وكيف يتطرق خلاف ذلك إلى
الوهم. وقد روي عن علي وغيره من الصحابة رضوان الله عليهم ما يشهد بصحته على ما
تقدم تقريره وتتبادر الأفهام عند سماعه إلى أنه مانع من تطرق تلك الأوهام أم كيف
يحل اعتقاد خلاف ذلك والإجماع على خلافه وهو قطعي والله أعلم.
الوجه الثاني من الوجهين في الجواب أنه لم لا يجوز أن يكون الولي هنا بمعنى المحب
المتولي ضد العدو والتقدير وهو متواليكم ومحبكم بعدي ويكون المراد بالبعدية ههنا
في الرتبة لا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم أي أنا المتقدم في توالي المسلمين
ومحبتهم بذلك الاعتبار المتقدم ثم علي بعدي في الدرجة الثانية لمكانته مني وقربه
ومناسبته فهو أولى بمحبة من أحبه وتوالي من أتولاه ونصرة من أنصره وإجارة من أجيره
والله أعلم.
في ذكر خلافته وما يتعلق بها
ذكر ما جاء دليلاً على خلافته تنبيهاً سابقاً منه صلى الله
عليه وسلم وتقريراً لاحقاً من الصحابة وشهادة منهم بصحتها وأنها لم تكن إلا بحق.
وقد تقدم جملة من أحاديث هذا الذكر فشيء منها تقدم في باب الأربعة في ذكر ما جاء في
خلافة الأربعة وفي باب الثلاثة كذلك وفي باب أبي بكر وعمر كذلك وبعضها مصرح
بخلافتهم على الترتيب الواقع منه صلى الله عليه وسلم تارة ومن فهم الصحابة أخرى
خصوصاً أحاديث مرائيه صلى الله عليه وسلم فإن أحاديثها متفق على صحتها. وكذلك حديث
الأمر بالاقتداء بأبي بكر وعمر وبعده باقيها تقدم في الخصائص ونحن ننبه عليه لنفرع
إليه عند الحاجة إلى الاستدلال به. فمنها حديث ابن عباس ليس أحداً من علي إلى قوله
سدوا عني كل خوخة وفهم الصحابة رضوان الله عليهم من ذلك التنبيه على الخلافة. وقد
تقدم وجه بيان الدلالة منه وهو في الذكر الرابع من فصل الخصائص وأحاديث أفضليته
كلها دليل على تعينه على قولنا لا تنعقد ولاية المفضول عند وجود الأفضل وعلى القول
الآخر دليل على أولويته لا نزاع في ذلك وقد تقدمت في الذكر الثالث عشر من الخصائص.
وتقدم ضرب منها في باب الأربعة وفي باب الثلاثة وفي باب أبي بكر وعمر وحديث
استخلافه على الصلاة لما ذهب يصلح بين بني عوف في الثالث والأربعين من الخصائص.
وحديث استخلافه عليها في مرض وفاته في الخامس والأربعين وهو من أوضح الأدلة وعليه
اعتمد عمر وعلي وغيرهما من الصحابة في الاستدلال على خلافته وعلى أحقيته بها على
ما سيأتي في آخر هذا الذكر ووجهه أنه كان وهو صلى الله عليه وسلم قد تأهب للنقلة
إلى ربه فعينه للإمامة ثم عورض بعرض غيره عليه لذلك فمنع منه ثم لما أن تقدم غيره
كره ذلك وصرح بالمنع منه ثم أكده بتكرار المنع فقال لا لا لا ثم أردف ذلك بما فيه
تعريض بالخلافة بل تصريح بقوله يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر ثم أكد ذلك بتكرار
كل ذلك مع علمه صلى الله عليه وسلم بأن ذلك مظنة الخلافة فإنه كان صلى الله عليه
وسلم إمامهم في الصلاة والحاكم عليهم فلما أقام أبا بكر ذلك المقام مع توفر هذه
القرائن الحالية والمقالية علم أنه أراد ذلك وفي قوله يأبى الله والمسلمون إلا أبا
بكر أكبر إشارة بل أفصح عبارة ولولا اعتماده صلى الله عليه وسلم على تلك الإشارة
المصرحة بإرادة الخلافة لما أهمل أمرها فإنها من الوقائع العظيمة في الدين ويؤيد
أنه أراد كتب العهد على ما سنذكره ثم تركه وقال يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر
إنما كان والله أعلم اكتفاء بنصبه إماماً عند إرادة الانتقال عنهم وإحالة على فهم
ذلك عنه ولم يصرح بالتنصيص عليها لأنه مرتبط بما يوحي إليه لا يفعل شيئاً إلا بأمر
ربه ولم يأمره بالتنصيص لينفذ قضاؤه وقدره في ابتلاء قوم عميت أبصارهم بما ابتلاهم
به وليبين فضل من انقاد إلى الحق بزمام الإشارة ودله نور بصيرته عليه فإن من لم
يعتقد ذلك بعد بلوغ هذه الأحاديث والعلم بتلك القرائن الحالية والمقالية فالظاهر
عناده ورده للحق بعد تبينه.
ومنها حديث عائشة لا ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يؤمهم غيره
وهو صريح في الباب لعموم الإمامة تقدم في الرابع والأربعين وحديث الحوالة عليه في
السابع والأربعين وهو من أدل الأدلة وأوضحها وحديثها من أصح الأحاديث وإن صحت
الزيادة على ما رواه مسلم وهي قوله صلى الله عليه وسلم فإني أخاف أن يتمنى متمن أو
يقول قائل أنا أولى. وفي رواية لكيلا يطمع في الأمر طامع أو يتمنى متمن ثم قال
ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر ويأبى الله ويدفع المؤمنون أبى الله والمؤمنون
أن يختلف عليه وهذا صريح في الباب ولا يقال إنه نص على إمامته بتوليته من جهته صلى
الله عليه وسلم فإنه لم يكتب بل عرف أنه الخليفة بعده فجعل الله سبحانه وتعالى ذلك
وأجمع المسلمون عليه.
ذكر سؤال النبي صلى الله عليه
وسلم تقدمة علي فأبى الله إلا تقدمة أبي بكر
عن علي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سألت الله عز
وجل أن يقدمك ثلاثاً فأبى إلا تقديم أبي بكر خرجه الحافظ السلفي في المشيخة
البغدادية وخرجه صاحب الفضائل ولفظه يا علي ما زلت أسأل الله فيك ثلاثاً فأبى أن
يقدم إلا أبا بكر وقال غريب وهذا الحديث مع غرابته يعتضد بما تقدم من الأحاديث
الصحيحة فيستدل بها على صحته لشهادة الصحيح لمعناه.
ذكر ما روي عن عمر في هذا الباب
عن عبد الله بن مسعود قال كان رجوع الأنصار يوم سقيفة بني
ساعدة بكلام قاله عمر بن الخطاب نشدتكم بالله هل تعلمون أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أمر أبا بكر يصلي بالناس قالوا اللهم نعم قال فأيكم تطيب نفسه أن يزيله
عن مقام أقامه فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا كلنا لا تطيب نفسه ونستغفر
الله خرجه أبو عمر وخرج أحمد معناه وفي آخره فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر
قالت الأنصار نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر وهذا مما يؤكد الاستدلال بإمامة الصلاة
على الخلافة كما قررنا والله أعلم.
ذكر ما روي عن علي رضي الله عنه
متضمناً القول بصحة خلافة أبي بكر متعلقاً في ذلك بسبب من النبي صلى الله عليه
وسلم
عن الحسن قال قال لي علي بن أبي طالب لما قبض النبي صلى الله
عليه وسلم نظرنا في أمرنا فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم قد قدم أبا بكر في
الصلاة فرضينا لدنيانا من رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا. وعنه قال قال
علي قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر يصلي بالناس وقد رأى مكاني وما كنت
غائباً ولا مريضاً ولو أراد أن يقدمني لقدمني فرضينا لدنيانا من رضيه رسول الله
صلى الله عليه وسلم لديننا. وعن قيس بن عبادة قال قال لي علي بن أبي طالب إن رسول
الله صلى الله عليه وسلم مرض ليالي وأياماً ينادي بالصلاة فيقول مروا أبا بكر
فليصل بالناس فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم نظرت فإذا الصلاة علم الإسلام
وقوام الدين فرضينا لدنيانا من رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا فبايعنا
أبا بكر خرجه أبو عمر وخرج معنى الثلاثة ابن السمان في الموافقة وابن خيرون في
حديث طويل تقدم في باب الثلاثة عن الحسن البصري. وهذا مما يؤيد ما ذكرناه من
الاستدلال بتقديمه إماماً في الصلاة على الإشارة إلى الخلافة وإن رضاهم به خليفة
إنما كان لكونه صلى الله عليه وسلم رضيه لإمامة الصلاة. وقد تقدم في الخصائص في
ذكر أفضليته قوله رضي الله عنه إن أترككم فإن يرد الله بكم خيراً يجمعكم على خيركم
كما جمعنا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على خيرنا وقد تقدم أيضاً دعاؤه أبا
بكر يا خليفة رسول الله في مواضع شتى وعن سويد قال دخل أبو سفيان على علي والعباس
فقال لهما ما بال هذا الأمر في أذل قبيلة من قريش وأقلها والله إن شئت لأملأنها
عليه خيلاً ورجلاً ولأورثنها عليه من أقطارها أي لأصر منها فقال علي ما أريد أن
تملأها عليه خيلاً ورجلاً ولولا أنا رأيناه أهلاً ما خليناه وإياها يا أبا سفيان
المؤمنون قوم نصحة بعضهم لبعض متوادون وإن بعدت ديارهم والمنافقون غششة بعضهم لبعض
وإن قربت ديارهم خرجه ابن السمان في الموافقة بهذا السياق وهو عند غيره إلى قوله
أملأها عليه خيلاً ورجلاً.
ذكر ما روي عن أبي عبيدة بن
الجراح في هذا الباب
عن أبي البختري قال قال عمر لأبي عبيدة بن الجراح أبسط يدك
حتى أبايعك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أنت أمين هذه الأمة فقال
أبو عبيدة ما كنت لأتقدم بين يدي رجل أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤمنا
فأمنا حتى مات خرجه أحمد وخرجه صاحب الصفوة. وعن إبراهيم التيمي قال لما قبض رسول
الله صلى الله عليه وسلم أتى عمر أبا عبيدة فقال ابسط يدك فلأبايعك فإنك أمين هذه
الأمة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو عبيدة لعمر ما رأيت لك فهة
قبلها منذ أسلمت تبايعني وفيكم الصديق ثاني اثنين.
شرح: الفهة السقطة والجهلة نحو ذلك قاله أبو عبيدة والفهة والفهاهة العي يقال رجل
فه وامرأة فهة.
ذكر ما روي عن عبد الله بن مسعود
في ذلك
عن زر بن حبيش عن ابن مسعود قال إن الله تبارك وتعالى نظر في
قلوب العباد فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد فاصطفاه وابتعثه
برسالته ثم نظر في قلوب العباد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء
نبيه صلى الله عليه وسلم يقاتلون عن دينه فلما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله
حسن وما رأوه سيئاً فهو عند الله سيئ وقد رأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
جميعاً أن يستخلفوا أبا بكر رضي الله عنه خرجه ابن السري وهذا من أقوى الأدلة على
صحة خلافته رضي الله عنه فإن الإجماع قطعي.
ذكر ما روي عن أبي سعيد في معنى
ذلك
عن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كنت
متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن أخي في الدين وصاحبي في الغار وإن أبا
بكر كان ينزل بمنزلة الوالد وإن أحق ما اقتدينا به بعد رسول الله صلى الله عليه
وسلم أبو بكر وروي عن ابن الزبير نحو ذلك خرجهما إبراهيم التيمي.
ذكر ما أخبره به النصارى مما
يتضمن خلافة أبي بكر
عن جبير بن مطعم قال لما بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم
وظهر أمره بمكة خرجت إلى الشام فلما كنت ببصرى أتتني جماعة من النصارى فقالوا من
الحرم أنت قلت نعم قالوا تعرف هذا الذي تنبأ فيكم قلت نعم قال فأخذوا بيدي
فأدخلوني ديراً لهم فيه تماثيل وصور فقالوا لي انظر هل ترى صورة هذا الذي بعث فيكم
فنظرت فلم أر صورته فقلت لا أرى صورته فأدخلوني ديراً أكبر من ذلك فإذا فيه تماثيل
وصور أكثر مما في ذلك الدير فقالوا لي انظر هل ترى صورته فنظرت فإذا أنا بصفة رسول
الله صلى الله عليه وسلم وصورته وإذا أنا بصفة أبي بكر وصورته وهو آخذ بعقب النبي
صلى الله عليه وسلم فقالوا هل ترى صفته قلت نعم فقلت لا أخبرهم حتى أعرف ما يقولون
فقالوا هو هذا قلت نعم أشهد أنه هو قالوا أتعرف هذا الذي أخذ بعقبه قلت نعم قالوا
نشهد أن هذا صاحبكم وأن هذا الخليفة من بعده خرجه ابن الصاعد. فإن قيل ما ذكرتموه
مما أوردتموه في حق أبي بكر واستدللتم به على أنه الخليفة بعد رسول الله صلى الله
عليه وسلم معارض بما جاء في حق علي بن أبي طالب وقد وردت أحاديث تدل على أنه
الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمنها حديث سعد بن أبي وقاص وابن عباس
أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ألا أنه لا نبي بعدي أخرجاه وغيرهما
أنه لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي قال له ذلك وقد استخلفه لما ذهب صلى الله
عليه وسلم إلى غزوة تبوك خرجه أحمد في مسنده والحافظ أبو القاسم الدمشقي في
الموافقات. وسيأتي مستوفياً في خصائصه من باب مناقبه ووجه الدلالة أن موسى استخلف
هارون عند ذهابه إلى ربه فمقتضى التنظير بينهما أن يكون خليفته عند ذهابه إلى ربه
كما كان هارون من موسى وأن يكون المراد بقوله لا ينبغي أن أذهب أي إلى ربي وذلك
ظاهر جلي ومنها حديث من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه
وانصر من نصره وفي بعض طرقه ألستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم قالوا بلى
يا رسول الله قال من كنت مولاه فإن هذا علي مولاه خرجه أحمد وأبو حاتم والترمذي
والبغوي. وسنذكر الحديث بطرق كثيرة في خصائصه من باب مناقبه إن شاء الله تعالى وجه
الدلالة أن المولى في اللغة المعتق وابن العم والعصبة ومنه وإني خفت الموالي من
ورائي وسموا بذلك لأنهم يلونه في النسب من الولي القرب ومنه قول الشاعر:
هم الموالي وإن جنفوا علينا | | وإنا من لقـائهـم لـزور |
أي بنو الأعمام والحليف وهو العقيد والجار والناصر ومنه قوله
تعالى: "ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم" في
قول ابن عرفة والولي ومنه الآية قال بعضهم أي وليهم والقائم بأمرهم وأما الكافر
فقد خذله وعاداه. ومنه أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم أيما امرأة نكحت بغير إذن
مولاها فنكاحها باطل أي وليها ثمانية أوجه ولا يصح الحمل على شيء من الأربعة الأول
إذ لا معنى له في الحديث وكذلك الخامس إلا على وجه بعيد بأن يراد بالحليف الناصر
والمتبادر إلى الذهن خلافه إذ الحليف من وجدت منه صورة المحالفة حقيقة والمجاز
خلاف الظاهر. وكذا السادس وهو الجار إلا أن يراد به المجير بمعنى الناصر ومنه وإني
جار لكم أي مجير فيرجع إلى معنى الناصر فتعين أحد معنيين إما الناصر أو الوالي
بمعنى المتولي وأيا ما كان أفاد المقصود إذ معناه من كنت متولياً أمره والناظر في
مصلحته والحاكم عليه فعلي في حقه كذلك وتأيد هذا المعنى بقوله ألستم تعلمون أني
أولى بالمؤمنين من أنفسهم وما ذاك إلا فيما ذكرناه من النظر فيما يصلحهم وفي
الاحتكام عليهم أو يكون معناه من كنت ناصره ومنصفه من ظالمه والآخذ له بحقه وبثأره
فعلي في حقه كذلك وقد تعذر وصفه بذلك في حال حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم
فتعين أن يكون المراد به بعد وفاته. ومنها وهو أقواها سنداً ومتناً حديث عمران بن
حصين أن علياً مني وأنا منه وهو ولي كل مؤمن من بعدي خرجه أحمد والترمذي وقال حسن
غريب وأبو حاتم وحديث بريدة لا يقع في علي فإنه مني وأنا منه وهو وليكم بعدي خرجه
أحمد والحديث الآخر من كنت وليه فعلي وليه خرجه أبو حاتم. وستأتي هذه الأحاديث
مستوفاة في خصائصه إن شاء الله تعالى وجه الدلالة أن الولي في اللغة المولى قاله
الفراء والمتولي ومنه: "أنت ولي في الدنيا والآخرة" أي متول أمري فيهما
وضد العدو بمعنى المحب والمتوالي والناصر ومنه: "إنما ذلكم الشيطان يخوف
أولياءه" أي يخوفكم أنصاره فحذف المفعول الأول كما تقول كسوت ثوباً أعطيت
درهماً. وقيل معناه نخوفكم بأوليائه فحذف الجار وأعمل الفعل ولا يتجه حمله على
المحب والمتوالي إذ لا يكون للتقييد بالبعدية معنى في الحديثين الأولين فإنه رضي
الله عنه كان محباً متوالياً للمؤمنين في حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم وبعد
وفاته والحديث الثالث محمول على الأولين في إرادة البعدية حملا للمطلق على المقيد
فتعين أحد المعاني الثلاثة وأيا ما كان أفاد المقصود أما بمعنى الناصر فقد تقدم
توجيهه في الحديث قبله وأما بمعنى الولي فإن حمل المولى على معنى يتجه في الحديث
كما تقدم تقريره فالكلام فيه ما سبق وإن حمل على ما لا يتجه فلا تصح إرادته وأما
بمعنى المتولي فظاهر في المقصود بل صريح والله أعلم. قلنا الجواب من وجهين الأول
أن الأحاديث المعتمد عليها في خلافة أبي بكر متفق على صحتها وهذه الأحاديث غايتها
أن تكون حسنة وإن صح منها شيء عند بعضهم فلا يصح معارضاً لما اتفق عليه.
الثاني تسليم صحتها مع بيان أنه لا دليل لكم فيها
قوله في الحديث الأول أن موسى استخلف هارون عند ذهابه إلى
ربه إلى آخر ما قرره قلنا الجواب عنه من وجهين الأول يقول هذا عدول عن ظاهر ما نطق
به لساناً الحال والمقال فإنه قال لعلي تلك المقالة حين استخلفه لما توجه إلى غزوة
تبوك على ما سيتضح إن شاء الله تعالى في آخر هذا الكلام وذلك استخلاف حال الحياة
فلما رأى تألمه بسبب التخلف إما أسفاً على الجهاد أو بسبب ما عرض من أذى المنافقين
على ما سنبينه إن شاء الله تعالى قال له تلك المقالة إيذاناً له بعلو مكانته منه
وشرف منزلته التي أقامه فيها مقام نفسه فالتنظير بينه وبين هارون إنما كان في
استخلاف موسى له متضمناً الإخوة وشد الأزر والعضد به وكان ذلك كله حال الحياة مع
قيام موسى فيما يستخلفه فيه يشهد بذلك صورة الحال فليكن الحكم في علي كذلك متضماً
إلى ما يثبت له من إخوة النبي صلى الله عليه وسلم وشد أزره وعضده به غير أنه لم
يشاركه في أمر النبوة كما شارك هارون موسى فلذلك قال صلى الله عليه وسلم إلا أنه
لا نبي بعدي. هذا على سبيل التنظير ولا إشعار في ذلك بما بعد الوفاة لا بنفي ولا
بإثبات بل يقول لو حمل على ما بعد الوفاة لم يصح تنزيل علي من النبي صلى الله عليه
وسلم منزلة هارون من موسى لانتفاء ذلك في هارون فإنه لم يكن الخليفة بعده من بعد
وفاة موسى وإنما كان الخليفة بعده يوشع بن نون فعلم قطعا أن المراد به الاستخلاف
حال الحياة لمكان التشبيه ولم يوجد إلا في حال الحياة لا يقال عدم استخلاف موسى
هارون بعد وفاته إنما كان لفقد هارون حينئذ ولو كان حياً ما استخلف غيره والله
أعلم بخلاف علي مع النبي صلى الله عليه وسلم وإنما يتم دليلكم أن لو كان هارون
حياً عند وفاته واستخلف غيره لأنا نقول الكلام معكم في ثنتين أن مراد بهذا القول
الاستخلاف في حال الحياة فكان التنزيل منزلة هارون من موسى ومنزلة هارون من موسى
في الاستخلاف لم تحقق إلا في الحال الحياة فثبت أن المراد به ما تحقق لا أمر
آخر وراء ذلك وإنما يتم متعلقكم منه أن لو حصل استخلاف هارون بعد وفاه موسى ثم
نقول هب أن المراد الاستخلاف عنه الذهاب إلى الرب فلم قلتم إن ذلك بالموت وإنما
يكون ذلك أن لو لم يكن إلا به وهو ممنوع والذهاب إلى الرب سبحانه وتعالى في الحياة
أيضاً وهل كان ذهاب موسى إلى ربه إلا في حال حياته والصلاة مناجاة والدعاء كذلك
والحجاج والعمار وقد الله فهل يكون الذهاب إلى شيء من ذلك إلا ذهاباً إلى الرب
حقيقة ومطابقتها أوقع من مطابقة الذهاب بالموت. فكل ذاهب إلى طاعة ربه ذاهب إلى
ربه لأنه متوجه إليه به وإن كان في بعض التوجه أوقع منه في غيره هذا لا نزاع فيه
فيكون النبي صلى الله عليه وسلم استخلف علياً وهو ذاهب إلى ربه بالخروج إلى طاعته
بالجهاد كما استخلف موسى هارون في حال حياته ذاهباً إلى ربه والله أعلم. الوجه
الثاني أن سياق هذا القول خبر ولو كان المراد به ما بعد الوفاة لوقع لا محالة كما
وقع كما أخبر عن وقوعه فإن خبره صلى الله عليه وسلم حق وصدق: "وما ينطق عن
الهوى إن هو إلا وحي يوحى" ولما لم يقع علم قطعاً أنه لم يرد ذلك. وقوله إنه
لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي المراد به والله أعلم خليفتي في أهلي فإنه صلى
الله عليه وسلم لم يستخلف إلا عليهم والقرابة مناسبة لذلك واستخلف صلى الله عليه
وسلم على المدينة محمد بن مسلم الأنصاري وقيل سباع بن عرفطة ذكره ابن إسحاق وقال
خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك علياً على أهله وأمره بالإمامة
فيهم فأرجف المنافقون على علي وقالوا ما خلفه إلا استثقالاً قال فأخذ علي سلاحه ثم
خرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل بالجرف فقال يا نبي الله زعم
المنافقون أنك خلفتني لأنك استثقلتني وتخففت مني فقال كذبوا ولكني خلفتك لما تركت
ورائي فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك أفلا ترضى يا علي أن تكون مني بمنزلة هارون من
موسى إلا أنه لا نبي بعدي أو يكون المعنى إلا وأنت خليفتي في أهلي في هذه القضية
على تقدير عموم استخلافه في المدينة إن صح ذلك ويكون ذلك لمعنى اقتضاه في تلك
المرة علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهله غيره يدل عليه أنه صلى الله عليه
وسلم استخلف غيره في قضايا كثيرة ومرات عديدة أو يكون المعنى الذي يقتضيه حالك
وأمرك ألا أذهب في جهة إلا وأنت خليفتي لأنك مني بمنزلة هارون من موسى لمكان قربك
مني وأخذك عني لكن قد يكون شخوصك معي في وقت أنفع لي من استخلافك أو يكون الحال
يقتضي أن المصلحة في استخلاف غيرك فيتخلف حكم الاستخلاف عن مقتضيه لمعارض أقوى منه
يقتضي خلافه وليس في شيء من ذلك كله ما يدل على أنه الخليفة من بعد موته صلى الله
عليه وسلم.
وأما الحديث الثاني فقوله فيه فتعين أحد معنيين إما الناصر
وإما الولي بمعنى المتولي فيقول بموجبه لا بالتقدير الذي قدروه والمعنى الذي نزلوه
عليه بل يكون التقدير على معنى الناصر من كنت ناصره فعلي ناصره لأن علياً جلا من
الكروب في الحرب ما لم يجلها غيره وفتح الله على يديه في زمنه صلى الله عليه وسلم
ما لم يفتح على يد غيره وشهرة ذلك تغني عن الاستدلال عليه والتطويل فيه. وإذا كان
بهذه المثابة كان ناصرا من كان النبي صلى الله عليه وسلم ناصره لما أشاد الله
تعالى به من دعائم الإسلام المثبتة له منه في عنق الخاص والعام بنصرة المسلمين
وإشادته منار الدين أو يكون المعنى من كنت ناصره فعلي نصره وإن كان ذلك واجباً على
كل أحد من الصحابة بل من الأمة لكن أثبت بذلك لعلي نوع اختصاص لأنه أقربهم إليه
وأولاهم بالانتصار لمن نصره وهذا أولى من حمل الناصر على المعنى الذي ذكروه لما
يستلزم ذلك من المفسدة العظيمة والوصمة الفظيعة والثلمة المتفاقمة في جلة أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار على ما سنقرره في الجواب عن الحديث
الثالث مما يدل على أنه لا يجوز حمله على معنى الاستخلاف بعده. وأما على معنى
المتولي فيكون التقدير فعلي وليه ومتولي أمره بعدي فلا يصح ذلك إذ الإجماع منعقد
على أنه لم يرد ذلك في الحالة الراهنة فيكون كالحديث الثالث وسيأتي الكلام عنه
مستوفياً إن شاء الله تعالى. على أن نقول لم لا يجوز أن يكون المراد بالولي المنعم
استعارة من مولى العتق التفاتاً إلى المعنى المتقدم آنفاً في معنى الناصر ويكون
التقدير من أنعم الله عليه بالهداية على يد نبيه صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام
والإيمان حتى اتصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه مولاه فقد أنعم الله عليه أيضاً
باستقامة أمر دينه وأمانه من أعداء الدين وخذلانهم وقوة الإسلام وإشادة دعائمه على
يد علي بن أبي طالب مما اختص به دون غيره مما تقدم بيانه مما يصحح بيانه له
الاتصاف بأنه مولى له أيضاً.
وقد حكى الهروي عن أبي العباس أن معنى الحديث من أحبني يتولاني فليحب علياً
وليتوله وفيه عندي بعد إذ كان قياسه على هذا التقدير أن يقول من كان مولاي فهو
مولى علي ويكون المولي بمعنى الولي ضد العدو فلما كان الإسناد في اللفظ على العكس
من ذلك بعد هذا المعنى ولو قال معناه من كنت أتولاه وأحبه فعلي يتولاه ويحبه كان
أنسب للفظ الحديث وهو ظاهر لمن تأمله نعم يتجه ما ذكره من وجه آخر بتقدير حذف في
الكلام على وجه الاختصار تقديره من كنت مولاه فسبيل المولى وحقه أن يحب ويتولى
فعلي أيضاً مولاه لقربه مني ومكانته من تأييد الإسلام فليحبه وليتوله كذلك.
أما الحديث الثالث فقوله فيتعين حمل الولي إما على الناصر المتولي إلى آخر ما قرر
قلنا الجواب عنه من وجهين الأول القول بالموجب على المعنيين مع البيان بأنه لا
دليل فيه لكم أما على معنى الناصر فلما بيناه في الحديث قبله وأما بمعنى المتولي
فقد كان ذلك وإن كان بعد من كان بعده إذ يصدق عليه بعده حقيقة ومثل هذا قد ورد.
وسيأتي في مناقب عثمان أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في منامه حورية فقال لها
لمن أنت قالت لخليفة من بعدك عثمان ويكون فائدة ذكر ذلك التنبيه على فضيلته والأمر
بالتمرن على محبته فإنه سيلي عليكم ويتولى أمركم ومن تتوقع إمرته فالأولى أن يمرن
القلب على مودته ومحبته ومجانبة بغضه ليكون أدعى إلى الانقياد وأسرع للطواعية
وأبعد من الخلف. ويشهد لذلك أن هذا القول صدر حين وقع فيه من وقع وأظهر بغضه من
أظهر على ما تضمنه الحديث وسيأتي في خصائصه أيضاً فأراد نفي ذلك عنهم والتمرن على
خلافته لحاجتهم إليه وحاجته إليهم ولا يجوز حمله على أنه المتولى عقيب وفاته صلى
الله عليه وسلم في الأحاديث كلها لوجوه:
الأول: أن لفظ الحديث لفظ الخبر ممن لا ينطبق عن الهوى إن هو
إلا وحي يوحى ولو كان المراد به ذلك لوقع لا محالة كما وقع كل ما أخبر عنه ولما لم
يقع ذلك دل على أن المراد به غيره لا يقال لم لا يجوز أن يكون المراد الأمر بلفظ
الخبر لأنا نجيب عنه من وجهين: الأول أنه صرف اللفظ عن ظاهره وذلك مرجوح والظاهر
راجح فوجب العمل به. الثاني أن ذلك أمر عظيم مهم في الدين وحكم تتوفر عليه داعية
المسلمين ومثل ذلك لا يكتفي فيه بالألفاظ المحتملة بل يجب فيه التصريح بنص أو ظاهر
الوجه.
الثاني: أنه يشم من الحمل على ذلك مفسدة عظيمة وهو نسبة الأمة إلى الاجتماع على
الضلالة واعتقاد خطأ جميع الصحابة على تولية أبي بكر رضي الله عنه وعنهم أجمعين
وإن علياً وافقهم على ذلك الخطأ فإن بيعته قد اجتمع عليها ما سنقرره في فصل خلافته
وذلك منفي بقوله صلى الله عليه وسلم لا تجتمع أمتي على ضلالة وما ذكرناه في المصير
إليه دفع لهذا المحذور ونفي للظلم والخطأ عن الجم الغفير المشهود لهم بأنهم
كالنجوم وأن من اقتدى بهم اهتدى خصوصاً من أمره صلى الله عليه وسلم بالاقتداء به
من بعده وشهد بالرشد لمن أطاعه وأن الدين يتم به على ما سبق مما تضمنه باب أبي بكر
وعمر. وما تدعيه الرافضة من أن علياً ومن تابعه من بني هاشم في ترك المبادرة إلى
بيعة أبي بكر إنما بايعوه تقية بلا إجماع في نفس الأمر فذلك في غاية الفساد
وسنقرره ونجيب عنه على الوجه الأسد في ذكر بيعة علي إن شاء الله من هذا الفصل
الوجه الثالث أن الأحاديث المتقدمة في أبي بكر دلت على أنه الخليفة عقيب وفاته صلى
الله عليه وسلم وقد مر وجه دلالتها على ما تقدم وأحاديث علي مترددة بين احتمالين
فالحمل على أحدهما توفيق بين الأحاديث كلها ونفي للمحذور اللازم في حق الصحابة كما
قررناه والحمل على الآخر إلغاء لبعضها وتقرير لذلك المحذور فكان الحمل على ما يحصل
به التوفيق ونفي المحذور أولى عملاً بالأحاديث كلها وكيف يتطرق خلاف ذلك إلى
الوهم. وقد روي عن علي وغيره من الصحابة رضوان الله عليهم ما يشهد بصحته على ما
تقدم تقريره وتتبادر الأفهام عند سماعه إلى أنه مانع من تطرق تلك الأوهام أم كيف
يحل اعتقاد خلاف ذلك والإجماع على خلافه وهو قطعي والله أعلم.
الوجه الثاني من الوجهين في الجواب أنه لم لا يجوز أن يكون الولي هنا بمعنى المحب
المتولي ضد العدو والتقدير وهو متواليكم ومحبكم بعدي ويكون المراد بالبعدية ههنا
في الرتبة لا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم أي أنا المتقدم في توالي المسلمين
ومحبتهم بذلك الاعتبار المتقدم ثم علي بعدي في الدرجة الثانية لمكانته مني وقربه
ومناسبته فهو أولى بمحبة من أحبه وتوالي من أتولاه ونصرة من أنصره وإجارة من أجيره
والله أعلم.
مواضيع مماثلة
» ذكر اختصاصه بالحوالة عليه بعد وفاته تنبيهاً على خلافته وأنه القائم بعده
» الفصل التاسع في خصائصه
» الفصل الخامس في ذكر من أسلم على يديه
» الفصل الثامن في هجرته مع النبي
» الفصل الحادي عشر فيما جاء متضمناً صلاة النبي صلى الله عليه وسلم له بالجنة
» الفصل التاسع في خصائصه
» الفصل الخامس في ذكر من أسلم على يديه
» الفصل الثامن في هجرته مع النبي
» الفصل الحادي عشر فيما جاء متضمناً صلاة النبي صلى الله عليه وسلم له بالجنة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى