هل في المرأة شؤم ؟!
صفحة 1 من اصل 1
هل في المرأة شؤم ؟!
بسم الله الرحمن الرحيم
هل في المرأة شؤم ؟!
كثيرا ما نسمع التشكيك في حفظ الإسلام حق المرأة والإعلاء من شأنها من خلال
الكلام على حديث ( الشؤم في ثلاث ) ، وهذا إما من عدو متربص يلبس في المعنى
ويفصل بين روابطه التي يكتمل بها ظهوره ، أو من جاهل يفهم معنى باطلا لم يدل
عليه الدليل ثم يبثه أو يبقى في نفسه إشكالا يضيق به ويصد عنه ، أو ربما كان
ذلك من شخص خاصم زوجته فوجه لها ذلك الوصف بأنها شؤم بقول النبي صلى الله
عليه وسلم ، وهذا جناية على الحديث أيما جناية .
لذا لا بد من بيان المعنى المراد من الحديث ليكون الاستدلال في محله ، ويرد كيد
من أراد النيل من الإسلام في هذا الأمر في نحره .
وإن من نافلة القول ابتداء هنا تقرير ما للمرأة في الإسلام من مكانة عالية
ومنزلة مصونة وحق محفوظ ، فهذا من الظهور أوضح من الشمس في ضحاها والقمر إذا
تلاها ، وليس المقام ذكر الدلائل على ذلك هنا ، فهذا يطول ، لكن المقصود الوقوف
على معنى حديث الشؤم المتعلق بالمرأة .
فقد جاء الحديث مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألفاظ عدة
...
ففي لفظ : ( إنما الشؤم في ثلاثة : في الفرس و المرأة والدار )[1] .
وفي لفظ : ( الشؤم في المرأة والدار والفرس )[2].
وفي لفظ : ( إن كان الشؤم في شيء ففي الدار والمرأة والفرس )[3].
وفي لفظ ( إن يكن من الشؤم شيء حق ففي الفرس والمرأة والدار )[4].
وفي لفظ : ( إن كان في شيء ففي الربع والخادم والفرس )[5] ، وفي لفظ زيادة (
والسيف )[6].
وللعلماء رحمهم الله تعالى أجوبة عدة على ما قد يحصل من اشتباه في معنى الحديث
:
الجواب الأول :
أن أصل الحديث حكاية لقول اليهود أو المشركين وبيان مذهبهم الباطل في ذلك ،
ولكن قد روي الحديث بدون ما يدل على الحكاية .
ودليل ذلك ما رواه قتادة عن أبي حسان قال : دخل رجلان من بني عامر على عائشة
رضي الله عنها فأخبراها أن أباهريرة رضي الله عنه يحدث عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( الطيرة في الدار والمرأة والفرس ) فغضبت
، فطارت شقة منها في السماء ، وشقة في الأرض ، وقالت : والذي نزل الفرقان على
محمد ما قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم قط ، إنما قال : ( كان
أهل الجاهلية يتطيرون من ذلك ) .[7]
وفي رواية قالت : ولكن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : (
كان أهل الجاهلية يقولون : الطيرة في المرأة والدار والدابة ) ، ثم قرأت عائشة
رضي الله عنها : ( ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب )
الآية .[8]
ويشهد له ما رواه أبو داود الطيالسي عن مكحول أنه قال : قيل لعائشة : إن أبا
هريرة رضي الله عنه يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
( الشؤم في ثلاث : في الدار والمرأة والفرس ) فقالت عائشة رضي الله عنها : لم
يحفظ أبو هريرة ؛ لأنه دخل ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (
قاتل الله اليهود ، يقولون : إن الشؤم في الدار والمرأة والفرس ) فسمع آخر
الحديث ولم يسمع أوله .[9]
قال الألباني : ( وإسناده حسن لولا الانقطاع بين مكحول وعائشة ، لكن لا بأس به
في المتابعات والشواهد إن كان الرجل الساقط من بينهما هو شخص ثالث غير
العامريين المتقدمين ) .[10]
ومما يؤيد ذلك ما رواه الإمام أحمد عن أبي معشر عن محمد بن قيس قال : سئل أبو
هريرة رضي الله عنه : سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم
( الطيرة في ثلاث : في المسكن والفرس والمرأة ) ؟ قال : إذاً أقول على رسول
الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل ، ولكني سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول : ( أصدق الطيرة الفأل ، والعين حق ) .
ولكن هذه الرواية ضعيفة لضغف أبي معشر[11] ، ولما قيل من الانقطاع بين محمد بن
قيس وأبي هريرة رضي الله عنه .[12]
ومما يؤيده أيضا ما رواه الطبري في تهذيب الآثار عن ابن أبي مليكة قال : قلت
لابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : كيف ترى في جارية لي ، في نفسي منها شيء ؟ فإني
سمعتهم يقولون : قال نبي الله صلى الله عليه وسلم ( إن كان في شيء
ففي الربع والفرس والمرأة ) ، قال : فأنكر أن يكون سمع ذلك من النبي صلى
الله عليه وسلم أشد النكرة ، وقال : إذا وقع في نفسك منها شيء ففارقها ،
بعها أو أعتقها .[13]
فبناء على قول عائشة رضي الله عنها ، فالحديث ليس فيه تقرير للطيرة ، بل هو
متضمن للنهي والتحذير من ذلك ؛ إذ أن نسبة العمل لأهل الكفر والجاهلية دال على
النهي .
هذا ، وقد رد بعض أهل العلم هذا الجواب ؛ لثبوت الحديث من طرق عدة ، وعن عدد من
الصحابة رضوان الله عليهم غير أبي هريرة .
قال الإمام ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ : ( ولكن قول عائشة هذا مرجوح ، ولها
ـ رضي الله عنها ـ اجتهاد في رد بعض الأحاديث الصحيحة خالفها فيه غيرها من
الصحابة ، وهي ـ رضي الله عنها ـ لما ظنت أن هذا الحديث يقتضي إثبات الطيرة
التي هي من الشرك لم يسعها غير تكذيبه ورده ، ولكن الذين رووه ممن لا يمكن رد
روايتهم ، ولم ينفرد بهذا أبو هريرة وحده ، ولو انفرد به فهو حافظ الأمة )[14]
.
وقال الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله تعالى ـ : ( ولا معنى لإنكار ذلك على أبي
هريرة مع موافقته من ذكرنا من الصحابة له في ذلك )[15] .
قلت : لم أجد رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه في إثبات الشؤم في
هذه الأمور سوى ما تضمنته رواية إنكار عائشة رضي الله عنها ، وفيها إبهام
للرجلين اللذين رويا ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه ، وما أورده
الهيثمي في مجمع الزوائد وعزاه إلى البزار والطبراني في الأوسط ، وقال : وفيه
بلال بن داود الأودي وهو ضعيف . وعليه فثبوت ذلك عنه محل نظر ، والله أعلم .
ثم أيضا ، ثبوت إنكار ذلك عن عائشة رضي الله عنها يجعل هذا الجواب من القوة
بمكان ، ثم إنه ليس فيه رد للرواية ، وإنما هو توجيه لها ، وبيان زيادة مهمة
فيها تزيل الاشتباه في احتمال التعارض مع الروايات الدالة على نفي تأثير الطيرة
في شيء ، والله أعلم .
قال الزركشي : ( قال بعض الأئمة : ورواية عائشة في هذا أشبه بالصواب إن شاء
الله تعالى ـ ؛ لموافقتها نهيه عليه الصلاة والسلام عن الطيرة نهيا عاما ،
وكراهتها ، وترغيبه في تركها بقوله « يدخل الجنة سبعون ألفا بغير حساب » وهم
الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتكلون )[16] .
الجواب الثاني :
حمل رواية الجزم ـ وهي ( الشؤم في ثلاث ... ) ورواية ( إنما الشؤم في ثلاث ...
) ـ على رواية التعليق ـ وهي ( إن كان الشؤم في شيء ... ) وما في معناه .
وقد وردت رواية الجزم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما ، وأبي هريرة رضي
الله عنه ـ فيما تضمنته رواية إنكار عائشة رضي الله عنها ـ .
أما رواية التعليق فقد وردت من عدة طرق : من طريق ابن عمر نفسه ، قال : ذكروا
الطيرة عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه
وسلم : ( إن كان الشؤم في شيء ففي الدر والمرأة والفرس ) .
ولها شاهد من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال : ( إن كان في شيء ففي المرأة والفرس والمسكن )[17] .
ومن حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال : ( لا عدوى ولا طيرة ولا هام ، إن تكن الطيرة في شيء ففي
الفرس والمرأة والدار )[18] .
ومن حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال : ( إن كان شيء ففي المرأة والفرس والمسكن )[19] .
ومن حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال : ( لا طيرة ، والطيرة على من تطير ، وإن تك في شيء ففي الدار
والفرس والمرأة )[20] .
ومن حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال : ( لا عدوى ولا طيرة ، وإن كان في شيء ففي المرأة والفرس
والدار )[21] .
وبذلك يعلم أن رواية التعليق هي الأكثر ، وقد وردت عن عدد من الصحابة رضي الله
عنهم ، مما يدل على أنها هي المحفوظة ، فتحمل رواية الجزم عليها .
وبناء على ذلك فليس في الحديث دلالة على إثبات الطيرة في هذه الأمور ، بل هو
موافق للنصوص الدالة على نفي الطيرة ؛ إذ أن المعنى : لو كانت الطيرة مؤثرة في
شيء لكانت في هذه الثلاثة ، أما وإنها ليست كائنة فيها ـ وهي أكثر ما يلازم
المرء ـ فإن الطيرة منفية في غيرها .
قال الإمام ابن جرير الطبري : ( وأما قوله صلى الله عليه وسلم : «
إن كان الشؤم في شيء ففي الدار والمرأة والفرس » فإنه لم يثبت بذلك صحة الطيرة
، بل إنما أخبر صلى الله عليه وسلم أن ذلك إن كان في شيء ففي هذه
الثلاث ، وذلك إلى النفي أقرب منه إلى الإيجاب ؛ لأن قول القائل : إن كان في
هذه الدار أحد فزيد . غير إثبات منه أن فيها زيدا ، بل ذلك من النفي أن يكون
فيها زيد أقرب منه إلى الإثبات أن فيها زيدا )[22] .
وقال الإمام الطحاوي ـ رحمه الله تعالى ـ عند كلامه على حديث سعد بن أبي وقاص
رضي الله عنه المتقدم : ( فلم يخبر أنها فيهن ، وإنما قال : إن تكن في
شيء ففيهن ، أي لو كانت تكون في شيء لكانت في هؤلاء ، فإن لم تكن في هؤلاء
الثلاثة فليست في شيء )[23] .
وقال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني ـ رحمه الله تعالى ـ : ( والحديث يعطي
بمفهومه أن لا شؤم في شيء ؛ لأن معناه : لو كان الشؤم ثابتا في شيء ما لكان في
هذه الثلاثة ، لكنه ليس ثابتا في شيء أصلا . وعليه فما في بعض الروايات بلفظ »
الشؤم في ثلاثة « فهو اختصار وتصرف من بعض الرواة ، والله أعلم )[24] .
ومن تأمل رواية البخاري ـ رحمه الله تعالى ـ لما ذكر رواية ابن عمر ري الله
عنهما ـ وهي بالجزم ـ عقبها برواية سهل بن سعد ـ وهي بالتعليق ـ مما ظاهره ما
تقرر في هذا الجواب ، وهو حمل رواية الجزم على رواية التعليق ، والله أعلم .
الجواب الثالث :
تخصيص هذه الثلاثة من عموم ما يتطير به .
ورجحه الشوكاني ، فقال : ( فيكون حديث الشؤم مخصصا لعموم حديث » لا طيرة « فهو
في قوة : لا طيرة إلا في هذه الثلاث . وقد تقرر في الأصول أنه يبنى العام على
الخاص مع جهل التاريخ ، وادعى بعضهم أنه إجماع ، والتاريخ في حديث الطيرة
والشؤم مجهول )[25] .
ونسبه ابن القيم وابن حجر إلى ابن قتيبة .
قال ابن حجر ـ رحمه الله تعالى ـ : ( وظاهر الحديث أن الشؤم والطيرة في هذه
الثلاث ، قال ابن قتيبة : « ووجهه أن أهل الجاهلية كانوا يتطيرون ، فنهاهم
النبي صلى الله عليه وسلم ، وأعلمهم أن لا طيرة ، فلما أبوا أن
ينتهوا بقيت الطيرة في هؤلاء الثلاثة » . قلت : فمشى ابن قتيبة على ظاهره ،
ويلزم من قوله أن من تشاءم بشيء منها نزل به ما يكره ) [26].
قلت : وكلام ابن قتيبة في « تأويل مختلف الحديث » يرد ذلك ؛ إذ أن مضمونه رد
الطيرة مطلقاً في هذه الثلاث وغيرها ، وحملُ حديث الثلاث على حكاية قول اليهود
أو المشركين على ما قالته عائشة رضي الله عنها ، وحملُ حديث « ذروها ذميمة »
على الرخصة في ترك ما استثقلوه .([27])
ولذلك فقد وجه القرطبي كلامه السابق الذي نقله ابن حجر ـ وأظنه في مشكل الحديث
كما أشار إليه ابن القيم ـ بما معناه هذا المضمون ، فقال : ( ولا يظن بمن قال
هذا القول أن الذي رخص فيه من الطيرة بهذه الأشياء الثلاثة هو على نحو ما كانت
الجاهلية تعتقده فيها وتفعل عندها ، فإنها كانت لا تقدم على ما تطيرت به ؛ بناء
على أن الطيرة تضر مطلقا ، فإن هذا ظن خطأ ، وإنما يعني بذلك أن هذه الثلاثة هي
أكثر ما يتشاءم الناس بها لملازمتهم إياها ، فمن وقع في نفسه شيء من ذلك أباح
الشرع له أن يتركه ويستبدل به غيره مما تطيب به نفسه ويسكن له خاطره ) [28] .
وعموماً فالجواب الذي تتفق فيه الروايات في المعنى أولى من هذا الجواب الذي
يتقرر به التعارض ، فيلجأ به إلى التخصيص .
الجواب الرابع :
أن التطير واقع على من تطير ، استدلالا بحديث أنس رضي الله عنه أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا طيرة ، والطيرة على من تطير
.. )[29] .
فقالوا : الشؤم بهذه الأشياء إنما يلحق من تشاءم بها وتطير بها ، فيكون شؤمها
عليه ، ومن توكل على الله ولم يتشاءم بها ولم يتطير لم تكن مشؤومة عليه ، فقد
يجعل الله تعالى تطير العبد وتشاؤمه سببا لحلول المكروه به ، كما يجعل الثقة
والتوكل عليه وإفراده بالخوف والرجاء من أعظم الأسباب التي يدفع بها الشر
المتطير به .[30]
قلت : والاستدلال بحديث أنس على ذلك فيه نظر ؛ إذ أن هذا الاستدلال يفيد إثبات
الطيرة على كل من تطير ، مع أن أول الحديث نفي لذلك .
قال الإمام ابن عبدالبر ـ رحمه الله تعالى ـ في بيان ذلك : ( فإن قال قائل : قد
روى زهير بن معاوية عن عتبة بن حميد ... ـ وذكر حديث أنس رضي الله عنه
ـ .. وقال : هذا يوجب أن تكون الطيرة في الدار والمرأة والفرس لمن تطير . قيل
له ـ وبالله التوفيق ـ : لو كان كما ظننت لكان الحديث ينفي بعضه بعضا ؛ لأن
قوله » لا طيرة « نفي لها ، وقوله » والطيرة على من تطير « إيجاب لها ، وهذا
محال أن يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم مثل هذا من النفي والإثبات
في شيء واحد ووقت واحد ، ولكن المعنى في ذلك : نفي الطيرة بقوله » لا طيرة « ،
وأما قوله » والطيرة على من تطير « فمعناه : إثم الطيرة على من تطير بعد علمه
بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الطيرة ، وقوله فيها « إنها شرك
، وما منا إلا ، ولكن الله يذهبه بالتوكل » ، فمعنى هذا الحديث عندنا ـ والله
أعلم ـ أن من تطير فقد أثم ، وإثمه على نفسه في تطيره ؛ لترك التوكل وصريح
الإيمان ؛ لأنه يكون ما تطير به على نفسه في الحقيقة ؛ لأنه لا طيرة في الحقيقة
)[31] .
الجواب الخامس :
أن المعنى هو إخبار عن الأسباب المثيرة للطيرة الكامنة في الغرائز ، وأنها بهذه
الثلاث ، أخبر بها ليحذر منها ، فالحوادث التي تكثر مع هذه الأشياء والمصائب
التي تتوالى عندها تدعو الناس إلى التشاؤم بها .[32]
فالمعنى : أن أكثر ما يقع الشؤم عند الناس هو بهذه الأمور الثلاثة ؛ وذلك لطول
الملازمة ، ووقوع المصاحبة ، فمن تشاءم بشيء من هذه الأمور فقد شابه أهل
الجاهلية .
الجواب السادس :
أن هذه الثلاث تكون في الغالب محال وظروف لحصول المكروه للمرء بحكم طول
الملازمة والمصاحبة ، فيكون المحل حين يقع المكروه عنده ملازما لذلك المكروه ،
فيقع الشؤم بذلك ، لا أن ذلك المحل هو السبب لوقوع ذلك المكروه .
فالمعنى منصرف إلى كون هذه الثلاث قد يقع الشؤم بها لكونها محالا لوقوع المكروه
، وقد تقرر النهي عن الطيرة والتشاؤم من قوله وفعله صلى الله عليه وسلم
.
قال الإمام الخطابي ـ رحمه الله تعالى ـ : ( وإنما هذه الأشياء محال وظروف جعلت
مواقع لأقضيته ، ليس لها بأنفسها وطباعها فعل ولا تأثير في شيء ، إلا أنها لما
كانت أعم الأشياء التي يقتنيها الناس ، وكان الإنسان في غالب أحواله لا يستغني
عن دار يسكنها وزوجة يعاشرها وفرس يرتبطه ، وكان لا يخلو من عارض مكروه في
زمانه ودهره ، أضيف اليمن والشؤم إليها إضافة مكان ومحل ، وهما صادران عن مشيئة
الله سبحانه )[33] .
الجواب السابع :
أن المراد بذلك ليس ثبوت الشؤم في هذه الأمور مطلقا ، وإنما ما يكون منها من
أعيان ممحوقة البركة ، فيكون الشر غالبا فيها ، وهي لطول ملازمة المرء لها يظل
أثر ذلك ملازما له ، فيقضي حياته معذبا بذلك .
والإسلام جاء رحمة للعباد ، فرخص لمن هذه حاله مفارقة ما يكون شؤمه غالبا على
نفسه ؛ حتى تطيب نفسه ، ويزول عنه ما يكره .
ولذلك فليس المقصود بذلك مطلق المرأة ومطلق الدار ومطلق الفرس ، كيف والنبي
صلى الله عليه وسلم قد أمر الذين تشاءموا من دارهم بالتحول إلى دار غيرها
! وكذلك لا يمكن أن يعيش المرء بلا دار ، ولم يكن هذا في الشرع أبدا !
وكذلك قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الدنيا متاع وخير
متاعها المرأة الصالحة ، وقد شرع لأمته أن يتزوجوا ، وحث الشباب على ذلك ، فلو
كانت كل امرأة مشؤومة لكان في هذا إبطال لذلك كله .
وكذلك الخيل قد أخبر صلى الله عليه وسلم أنها تكون مباركة لصاحبها
حين يراعي حق الله تعالى فيها ، فقال : ( الخيل لرجل أجر ، ولرجل ستر ، وعلى
رجل وزر ، فأما الذي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله فأطال بها في مرج أو روضة
فما أصابت في طيلها ذلك من المرج أو الروضة كانت له حسنات ، ولو أنه انقطع
طيلها فاستنت شرفا أو شرفين كانت آثارها وأرواثها حسنات له ، ولو أنها مرت بنهر
فشربت منه ولم يرد أن يسقي كان ذلك حسنات له ، فهي لذلك أجر ، ورجل ربطها تغنيا
وتعففا ثم لم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها فهي لذلك ستر ، ورجل ربطها فخرا
ورياء ونواء لأهل الإسلام فهي على ذلك وزر )[34] .
وقال عليه الصلاة والسلام : ( البركة في نواصي الخير )[35] .
فالمراد إذً ليس هو مطلق هؤلاء الثلاث ، وإنما ما قد يكون في ذلك من السوء مما
يجعله شؤما ملازما لمن صاحبه .
ومما يدل على ذلك ما رواه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال : ( من سعادة ابن آدم ثلاثة ، ومن شقوة بن آدم
ثلاثة ، من سعادة بن آدم : المرأة الصالحة ، والمسكن الصالح ، والمركب الصالح ،
ومن شقوة بن آدم : المرأة السوء ، والمسكن السوء ، والمركب السوء )[36] .
فالحديث دال دلالة صريحة على معنى الشؤم الذي يكون بهؤلاء الثلاث ، وأنه ليس من
الرمي بالغيب كما هو حال الطيرة والشؤم المنهي عنه ، ولكنه سبب بيّن معلوم ،
كما لو قلت : المعاصي شؤم على مرتكبها ، وسوء الخلق شؤم على صاحبه ، والابن
العاق شؤم على والديه ... وهكذا .
فما دام أن الشؤم الذي قد يقع بهؤلاء الثلاث قد جاء مفسرا بما هو سبب ظاهر له
فلا يكون من باب الطيرة التي كان عليها أهل الجاهلية ، والتي هي من القذف
بالغيب ، وخوض المرء بما ليس له به علم ، ولا له عليه دليل من الوحي المنزل أو
الأسباب القدرية التي جعلها الله تعالى سننا للعباد يربطون بها الأسباب
بمسبَّباتها .
ولقد جاء عن بعض السلف تفسير ذلك الشؤم المذكور في هذه الثلاث ، فقد روى
عبدالرزاق في مصنفه عن معمر : سمعت من يفسر هذا الحديث يقول : شؤم المرأة إذا
كانت غير ولود ، وشؤم الفرس إذا لم يغز عليه ، وشؤم الدار جار السوء .[37]
قال الإمام ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ : ( وبالجملة فإخباره بالشؤم أنه
يكون في هذه الثلاثة ليس فيه إثبات الطيرة التي نفاها ، وإنما غايته أن الله
سبحانه قد يخلق منها أعيانا مشؤومة على من قاربها وسكنها ، وأعيانا مباركة لا
يلحق من قاربها منها شؤم ولا شر ، وهذا كما يعطى سبحانه الوالدين ولدا مباركا
يريان الخير على وجهه ، ويعطى غيرهما ولدا مشؤما نذلا يريان الشر على وجهه ،
وكذلك ما يعطاه العبد من ولاية أو غيرها ، فكذلك الدار والمرأة والفرس ، والله
سبحانه خالق الخير والشر ، والسعود والنحوس ، فيخلق بعض هذه الأعيان سعودا
مباركة ويقضى سعادة من قارنها وحصول اليمن له والبركة ، ويخلق بعض ذلك نحوسا
يتنحس بها من قارنها ، وكل ذلك بقضائه وقدره كما خلق سائر الأسباب وربطها
بمسبباتها المتضادة والمختلفة ، فكما خلق المسك وغيره من حامل الأرواح الطيبة
ولذذ بها من قارنها من الناس ، وخلق ضدها وجعلها سببا لإيذاء من قارنها من
الناس ، والفرق بين هذين النوعين يدرك بالحس ، فكذلك في الديار والنساء والخيل
، فهذا لون والطيرة الشركية لون آخر )[38] .
قلت : وأظهر ما تقدم من جواب هو في الأول والثاني والسابع ، والله تعالى أعلم .
وبذا يصان الحديث عن الظنون الكاذبة التي يدعيها الأعداء ويقبلها الجهلاء .
والله ولي التوفيق .
-------------------------------------
[1]) رواه البخاري في الطب ـ باب لا عدوى ـ رقم 5772 ، ومسلم في السلام ـ باب
الطيرة والفأل وما يكون فيه الشؤم ـ رقم 2225 عن ابن عمر رضي الله عنهما .
[2]) البخاري في النكاح ـ باب ما يتقى من شؤم المرأة ـ رقم 5093 ، ومسلم في
السلام ـ باب الطيرة والفأل وما يكون فيه الشؤم ـ رقم 2225 عن ابن عمر رضي الله
عنهما .
[3]) البخاري في النكاح ـ باب ما يتقى من شؤم المرأة ـ رقم 5094 ، ومسلم في
السلام ـ باب الطيرة والفأل وما يكون فيه الشؤم ـ رقم 2225 عن ابن عمر رضي الله
عنهما . .
[4]) مسلم في السلام ـ باب الطيرة والفأل وما يكون فيه الشؤم ـ رقم 2225 عن ابن
عمر رضي الله عنهما .
[5]) مسلم في السلام ـ باب الطيرة والفأل وما يكون فيه الشؤم ـ رقم 2225 عن
جابر رضي الله عنه .
[6]) مالك في الموطأ ـ كتاب الاستئذان ـ باب ما يتقى من الشؤم 2/972 ،
وعبدالرزاق في المصنف 10/411 .
[7]) رواه أحمد في المسند 6/150 ، 240 ، والطحاوي في مشكل الآثار 1/341 .
[8]) رواه أحمد في المسند 6/246 ، والحاكم في المستدرك 2/521 وصححه ووافقه
الذهبي . وصححه الألباني كما في سلسلة الأحاديث الصحيحة 2/594 .
[9]) رواه أبو داود الطيالسي في مسنده ص 215 ورقم 1537 ، والطبراني في مسند
الشاميين 4/343 .
[10]) السلسلة الصحيحة 2/594
[11]) انظر : تقريب التهذيب لابن حجر ص 559 .
[12]) انظر : تهذيب التهذيب لابن حجر 9/367 .
[13]) تهذيب الآثار 3/27 رقم 70 .
[14]) مفتاح دار السعادة 2/254 .
[15]) فتح الباري 6/61 .
[16]) الإجابة فيما استدركته عائشة على الصحابة ص 128 .
[17]) رواه البخاري في الجهاد والسير ـ باب ما يذكر من شؤم الفرس ـ رقم 2859 ،
ومسلم في السلام ـ باب الطيرة والفأل وما يكون فيه الشؤم ـ رقم 2226 .
[18]) رواه أحمد في المسند 1/180 ، وابن حبان في صحيحه 13/497 ، والطحاوي في
شرح معاني الآثار 4/313 .
[19]) تقدم تخريجه ص
[20]) رواه ابن حبان في صحيحه 13/492 .
[21]) رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار 4/314 .
[22]) نهذيب الآثار 3/34 .
[23]) شرح معاني الآثار 4/314 .
[24]) سلسلة الآحاديث الصحيحة 443 .
[25]) نيل الأوطار 7/209 .
[26]) فتح الباري 6/72 ، وانظر مفتاح دار السعادة لابن القيم 2/256 .
[27] انظر : مختلف الحديث لابن قتيبة ص 104 وما بعدها .
[28]) المفهم 5/629 .
[29]) تقدم تخريجه ص
[30]) انظر : مفتاح دار السعادة 2/256 .
[31]) التمهيد 9/284 .
[32]) انظر : مفتاح دار السعادة 2/257 .
[33]) أعلام الحديث للخطابي 2/1379 .
[34]) رواه البخاري في المساقاة ـ باب شرب الناس والدواب من الأنهار ـ رقم 2371
، ومسلم في الزكاة ـ باب إثم مانع الزكاة ـ رقم 987 عن أبي هريرة رضي
الله عنه .
[35]) رواه البخاري في الجهاد والسير ـ باب الجهاد معقود في نواصيها الخير إلى
يوم القيامة ـ رقم 2851 ، ومسلم في الإمارة ـ باب الخيل في نواصيها الخير إلى
يوم القيامة ـ رقم 1874 .
[36]) رواه أحمد في المسند 1/168 وأبو داود الطيالسي في مسنده ص 29 رقم 210 ،
والحاكم في المستدرك 2/157 وصححه ووافقه الذهبي .
[37]) مصنف عبدالرزاق 10/411 .
[38]) مفتاح دار السعادة 2/257 .
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى